الجمعة، 20 ديسمبر 2013

وقت ميت من سوريا


الترجمة والتقديم: عمر يوسف سليمان


 ارتبطت تجربة الشاعر الفرنسي أكسودوم غييرم  (AxoDom Guillerm) بالبحث عن وسائل وتقنيات جديدة لنشر الشعر ومزجه بالفنون الأخرى، كـ (قصيدة الفيديو)، وتحويل القصائد إلى لوحات من خلال نحتها أو تعليقها مع صور ورسومات على الأشجار وجدران المنازل والقصور الباريسية، وقد ساعدته مهارته في فن التصوير على ذلك، إضافة إلى أنه كاتب مسرحي ومؤلف أغانٍ، شارك في العديد من الأنتولوجيات والأمسيات والمهرجانات الشعرية، أما القصيدة المترجمة أدناه فقد نُشرت في المجلة الشعرية الفرنسية (كُرَّاسات الإحساس) حزيران 2013، كما قرأها الشاعر في عدة مناسبات ثقافية منها (المهرجان الدولي للشعر في باريس) 2013.

البشر قبل البدائيين في هذه الجحيم الدنيوية
كأنهم مسيَّجون بالأسلاك الشائكة
حتى الشبّاك ذو الإطار المرصّع
يفوح بروائح غرفة التعذيب
لا أحد بريئاً
لا أحد أصمّ
الكلّ يعلم
الكلّ يسمع
الكلّ ينتظر
وما من أحدٍ طليقٍ حقاً سوى الأموات

إلهي، إلهي، خبِّئني حيثما تريد!
لا أستطيع أن أتحرّك
وأنتم!
كفاكم مواجهة للأخطار
اهربوا ولا تقلقوا
سأكون بخيرٍ وحدي في حديقة الزهور السوداء هذه

أحياناً أشعر أني اثنان
منفصمٌ، منهكٌ
لم أعد كائناً واحداً
ولا سبب لذلك
كنتُ يوماً ما كائناً
"أنا" لم يعد يعرف
هل نصفي الحقيقي هو الخائف؟
أم نصفي المقاتل الذي لا تهمّه أهوال الزمن؟
نصفي يخفي نصفي في طياته
كبُقَعٍ عفنةٍ من الإجاص
تختفي تحت العيون المغمضة
لنصفي العاري تحت هيكله العظمي
صه! اسمع، ركِّز قواك العقلية في هذا القبو
إننا نصغي إلى الدبّابات كما لو أننا نرى فكَّيها
الدبّابات تنخر جلد المدينة وتحفر فيه جنازيرها مثل وشم
الدبابات تشرب إسفلتَ الشوارع الأحمر المشتعل
فتطمس موسيقى قذائفها عقولَنا

الطائرات تُسقط الألغام والرصاص
في الألغام ضيَّعت ثديَي
لم يعد زغبي خارج جلدي بل داخله
الزغب يمشط جلدي
والكلَّابات تُبحر في عروقي
كانت لدينا حياة يوماً ما
كانت لدينا قطة وحب وأطفال وحلوى وكلاب وأشجارٌ
وكؤوس كحول تعلوها الرغوة الطازجة
كان هذا قبل أن تقيم أيدينا فوق أفواهنا
لتخنقنا كل ثانية رعباً
ونصبح أحدَ اثنين: أسودَ أو أبيض
الأكثر تعاسة منا مَن يصبح أحمر وهو يزول سريعاً كالذباب

لقد هرِمتْ شمسنا
وغاب رونقها
ما عاد للأوراق حفيفٌ أخضر
والأشجار لا تعيش إلا كظلالٍ عابرة

ما قيمة هذه الأجساد ونحن لا نستطيع الابتسام؟
وبماذا نغرس أنيابنا وحتى الظلال أصبحت مائعة لزجة؟
عيوننا قذرة
تسيل صفرتها على بشرتنا الرمداء
لم نعد نجرؤ على أن تنتفخ بطوننا
والمساميرُ تزخرفها كما تزخرف أطفالنا
المساميرُ تحبس أنفاسنا
عبثاً نحاول النجاة من الأشباح
سواءٌ تلك التي كانت تترصّد الخطوات
أو التي سنصيرها يوماً
حسناً
ماذا؟
ماذا؟
أية أحجية هذه؟
روحي تُغتَصَب كل يوم
ربما لو أن دماً أقلَّ يصبغ شعري
لكنتُ أكثر بهاءً
ربما لو لم أطلِقْ كل تلك الصرخاتِ
لكان صوتي رخيماً
أمَّا هذا الذي أكتبه الآن فليس أغنيةً
بل حرقة

باضمحلالٍ تدريجي لذاكرتي أعيش
فمن أكون إذاً؟

أنا لستُ سوى شهقاتِ وقتٍ ميتٍ
أنا اتفاقُ وقفِ إطلاقِ النار.

ـــــــــــــــــــــــــ
النهار- الملحق:
http://newspaper.annahar.com/article/93364-شعر--وقت-ميت-في-سوريا

الأحد، 15 ديسمبر 2013

رحيل رموز الحرية والرمز المستقبلي الجمعي

أيام الحراك السلمي للثورة السورية، عندما كان يتم تشييع النشطاء المستشهدين، ثمة اختلاف في نسبة إحباط الناس وحزنهم وغضبهم كان يلاحظها كل من يشارك في الجنائز أو يراها عن قرب، ما بين جنازة ناشط سقط في المظاهرة بإحدى رصاصات النظام العشوائية وآخر تم قنصه بشكل خاص أثناء تجوله أو خروجه من المنزل، والأخير لم يكن مجرد إعلامي أو منظم للمظاهرات، بل صاحب كاريزما خاصة تؤثر في الرأي العام، كما لم يكن هدفه إسقاط النظام دون ضمان لممارسة الحريات العامة والخاصة ودون مشروع نهضوي يشكل انتشاره خطراً يهدد النظام وادعاءاته كما يهدد السياسة المصلحية للمعارضة.

خلال جنازة الشهيد هادي الجندي (تم قنصه في شهر تموز 2011 في حمص القديمة) كان الإحباط العام الذي انتاب الناس في المدينة يتجاوز إحباطهم أثناء تشييع ضحايا مجزرة الاعتصام الشهير في 18 نيسان 2011، ولم تكن عشرات الألوف من المشيعين ترثي الشاب الذي اتحدت في ملامحه شدة اللطافة مع الجرأة والشجاعة المفرطة، بل كانت ترثي صوتها الداخلي الذي لم تستطع التعبير عنه إلا من خلاله، لذلك عنى افتقاده بالنسبة لها انقطاعاً للخيط الرابط بين الحلم وتحقيقه، الأمر نفسه ينسحب على معن العودات في درعا، وغياث مطر في داريا، والذي كانت طريقة قتله الوحشية تحت التعذيب بعد أن أصبح رمزاً للسلمية والتآخي السوري تعبيراً صارخاً على محاولة النظام لوأد إنسانية الشعب السوري، وكذلك مشعل تمو الذي صُفِّي حين التف حوله الناس وبدأ يشكل عقبة في وجه المخطط الهادف للنأي بالأكراد عن الثورة السورية.

لقد تعامل النظام بأسلوب ممنهج شديد العدوانية والحقد مع الشخصيات ذات التأثير الشعبي، ليس لقمع الحراك فقط، بل لتحطيم معنويات المواطن السوري وإجهاض تمسكه بأي أمل في التغيير، أما الرموز التي لم ينجح في قتلها فقد عمد إلى تهجيرها أو تشويه سمعتها...

عموماً، ومنذ أن انتشرت ثورة الاتصالات في العالم بدأت شخصية الرمز بالانكماش، فكلما صغر العالم وصار الزمن أكثر سرعة ذاب ثبات الرموز، مركز التحرر اليوم هو العقل الإلكتروني الذي تصب فيه الأفكار والتطلعات إلى الخلاص من التخلف وليس العقل البشري كما في السابق، ولأن ثورة الاتصالات في سوريا وغيرها من بلدان الربيع العربي جزء هام من الثورة على الأرض، فقد تعددت الرموز وتتالت بشكل سريع، كلما ظهر رمز يتحول مع الوقت إلى عامل من عوامل التغيير ولا يستقر كأساس له، وحين يكفي الشخص أن يحمل كاميرا و"لابتوباً" وخط إنترنت لينشر أفكاره ومشاهداته فإنه يستطيع تفعيل قدراته الحقيقية ويُتاح له أن يجذب الناس إلى أفكاره بعيداً عن "الكليشيهات" التي يضعها الآخرون، ونتيجة لتعددية الرموز وكثرتها في الحالة السورية فقد فشل النظام في إيقاف الحراك.

قبل ثورة الاتصالات هذه، ارتبطت أغلب الثورات عبر التاريخ بشخص واحد أو عدة أشخاص، منذ أيام ودع العالم نيلسون مانديلا، الكائن المتجذر في وجدان الإنسانية وصوت العدالة البشرية، وقبلها بأيام رحل أحمد فؤاد نجم، رمز ثورة الكلمة ورفض الاستبداد خلال عقود من التحولات في المجتمع المصري، وقد شكل رحيلهما حالة من الانكسار العام، فهما يمثلان خامة النضال لأجل الحرية خلال القرن العشرين، وما تبقى من إرادة النهوض بالأوطان قبل عصر الاتصالات الذي تبدلت فيه المفاهيم.

لن نشهد بعد اليوم رموز تحرر كمانديلا أو نجم أو غيفارا أو غاندي، فرمز الثورة في المستقبل ليس سوى الإنتاج الحضاري للبشرية، والذي يتجسد في الإنجاز العلمي الموجه لصالح الجميع بعد أن انصهرت مفاهيم الأمم والأعراق لصالح مفهوم التقدم، هذا الرمز تقوم به مجموعات من البشر بغض النظر عن انتماءاتها الضيقة، وتأثيره يمتد بشكل مباشر على جميع شعوب الأرض وليس على شعب واحد، ولأن العالم يزداد قسوة وسواداً، فإما أن نشهد إجهاضاً للحضارة وبالتالي سقوطاً إنسانياً لا منقذ منه، أو نهضة عالمية يجسدها هذا الرمز الجديد الذي لا يموت.

ـــــــــــــــــــــ
أورينت نت
http://orient-news.net/index.php?page=news_show&id=6671

الخميس، 7 نوفمبر 2013

جماليات

أجمل البلادِ...
تلك التي لا تُذكرُ في نشرةِ الأخبارْ

أجمل المُدُنْ:
التي لا تلمعُ فيها أوسمةُ النصرِ
لأنها لم تستقلَّ
لأنها لم تُحتَلْ!

أجمل القرى:
الخالية من السائحينَ والبترولِ والدِّيَكة...


أجملُ شمسٍ
تلكَ التي لا تشرقُ أو تغربُ على أحَدْ
ــــــــــــــــــ
عمر يوسف سليمان

الأحد، 3 نوفمبر 2013

الحرب هواء

لم يشتعلِ الرعدُ والبرقُ في سماءِ
باريسَ اليومْ
إلا لأنَّ الطائراتِ والصواريخَ
مزَّقتْ ليلَ
سوريا
ولمْ تلتهبْ قدَمُ ابنِ جارتيْ
إلا لأنَّ طفلاً دمشقياً غاصتْ إصبعُهُ
في جرحِه..
تلكَ الإصبعُ كانتْ تحبسُ الدِّماءَ
لكنها اغتالتِ المسافة
أمَّا الذينَ مرَّتْ عليهمُ الثوانيْ
مرورَ صوتِ المترو على حصى الأنفاقِ
فلمْ يدفعْهُمْ إلى الانتحارِ
سوى أبراجِ الكآبةِ في بلاديْ
الأرضُ: نافذةٌ
والحربُ: هواءْ!
ـــــــــــــــــــــــــــــ

عمر يوسف سليمان
القدس العربي
http://www.alquds.co.uk/?p=98826

جاري ريكو

في عينهِ نقطة حمراءُ جاءَ بها من أدغالِ
أميركا اللاتينية
النقطة كانت على ظهر فهدٍ
أهدى كل نقاطه كذكرى للمهاجرينَ إلى
الشمالْ
قال الفهدُ وقتها: لا نقاط بعدكمْ
لأننا سنصبحُ عما قريبٍ بلونٍ واحدٍ
كي نكونَ كما شاءَ الشماليونَ
فابنوا جنوبَنا في شمالهمْ
ولو من نقطةٍ حمراءَ كانت على ظهر فهدْ
/
جاري عرفَ أن الحياةَ الطبيعيَّةَ سلةٌ
مليئةٌ بالماءِ
فتزوج (الساكسفون) ورحلْ
آتي إليهِ
فيناديني بـ (أخي)
ولا يتذكرُ اسمي!
أصافحه
فتغوص أصابعي في الأدغالِ
ومناديلِ نساءٍ سودٍ
يغنين فوقَ التلالِ للانتظارِ
والغروبِ
وأبنائهنَّ الراحلينْ
يتكلم الفرنسيةَ مثلَ فهدٍ يلهثْ
ويفشل في أن يخرجَ من كوخه القديم بين
أشجار المطاطْ
يفشل في أن لا يرى البدرَ ساعةً كبيرةً
يذكِّرهُ منبهها آخرَ الليلِ بموعدهِ مع
اللاجدوى
وبأنَّ لجامَ حصانِ العبثِ هو العبثْ
/
ريكو جاءَ من غربِ الأرضِ
وجئتُ من شرقها
ولا نرى فرقاً بينَ ما تركناه خلفنا منْ
ضوءٍ وأشجار كينا
ولا بينَ البلاد
التي يعكسها ظلانا المنحنِيَانِ على
رخامِ الذاكرة
ـــــــــــــــــــــــ

عمر يوسف سليمان

القدس العربي
http://www.alquds.co.uk/?p=98826

الخميس، 31 أكتوبر 2013

شخص آخر

دائماً كانَ هناكَ شخصٌ آخرُ وأنا وحديْ
حينَ مشيتُ لأوَّلِ مرَّةٍ في شوارعِ
باريسَ
كانَ يمشي معيْ
فحاورتُهُ كشخصٍ سأكونهُ يوماً!
دائماً هناكَ شخصٌ آخرْ
في محطةِ القطارِ
يلوِّحُ ليْ مِن بينِ المروجِ
فتنبُعُ من كفِّهِ تفاصيلُ قريتيْ
البعيدة
يركضُ نحويْ مثلَ غريبٍ
فأشمُّ رائحةَ العصافيرِ والغروبِ
والوسائدِ البيضاءْ
أشمُّ رائحتيْ التيْ سَرَقتْهَا
المعادنُ والأوبئة
هو الآنَ بصحبتيْ بعدَ أعوامٍ طويلة!
يعلوْ صوتيْ عندما أتحدَّثُ الفرنسيةَ
صدفةً أمامهْ
أحكي له عن ماكينةٍ درزَتْ أوَّلَ
أعواميْ هنا
فخرجْتُ منها ثوباً بحبكةٍ جديدة!
أحكي عن باريسَ: دهشةِ الأطفالِ
وانتظارِ الانتظارِ
والطريقِ الذيْ لا يؤديْ إلا إليهْ
عن خارطةِ الصَّدَماتِ أحكيْ
وعن اصطيادِ الأوكسجينِ
والخياراتِ التي تتماثلْ!
أحكيْ عنْ تشرُّديْ -عندما كنتُ مثلَهُ-
كجناحِ طائرٍ منتوفْ
أحكيْ لهُ معانقاً انتباههُ
بينما أعُبُّ كلاميْ كمجنونٍ في صحراءَ
وأمنحُهُ كما لو كنتُ أمنحُنيْ ما ضاعَ
منيْ
أنا وطنٌ غريبٌ للغريبْ
وطنيْ الغريبُ: الغريبْ
لكنَّنا لا نكمِلُ الحوارَ
فصوتُ القطارِ القادمِ يصفعُنيْ..
ليذكِّرَنيْ بأنِّيْ لمْ أزلْ هوَ!
18/6/2013
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عمر يوسف سليمان
القدس العربي
http://www.alquds.co.uk/?p=98826

الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

المهرجان الدولي السابع للشعر في باريس قصائد عن الحرية والحرب والمنفى

لم يكن طقس باريس الشديد التقلب سبباً وحيداً لارتباك المشارك في المهرجان الدولي السابع للشعر في باريس لدى بحثه عن صالة عرض القراءات الأولى، بل ثمة سبب إضافي، وهو أن خمسين شاعراً من أوروبا والعالم العربي وأميركا اللاتينية سيقرأون نصوصهم بلغات عدة، وعلى المشارك أن يبذل قصارى جهده لكي لا يفوت عليه شيئاً من هذا الحدث الفريد. الارتباك كان مسيطراً على المشاركين، لكن جمال المكان (محافظة باريس 14) والاستماع إلى الشعر الجميل خفف من حدته.
إضافة إلى القراءة الدولية، التي قرأ فيها الشعراء مجتمعين خمسين قصيدة في شكل يومي، أقيمت نشاطات المهرجان الخاصة: أمسيات للشعر الإسباني، وشعراء فلسطين، وللشعراء المنفيين، ومحاضرة عن الشاعر الفرنسي ماكس جوب، مع عرض مسرحي اختتمت به نشاطات المهرجان، وقد مثِّلت فيه نصوص لشعراء ظهروا خلال الحربين العالميتين، منهم روبرت ديسنوس (1900-1945)، بول إيلوار (1895-1952)، ولانغستون هيوز (1902-1967).
كلمات الحرية والحرب والموت والمنفى كانت حاضرة بقوة في معظم نصوص الشعراء المشاركين. لم يكن ثمة اتفاق مسبق على ذلك، لكن الأزمة العالمية والخوف وانعدام الثقة بالمستقبل وتناول الهم الإنساني من خلال البحث عن حل لإنسان العالم بدلاً من عالم الإنسان كان مسيطراً على اللغة الشعرية. ففي اليوم الأول قرأ الشاعر الفرنسي أكسيوم غيليرم قصيدة عن الحرب في سوريا، ومع أنه لم يزر الشرق الأوسط من قبل، إلا أنه صرح بأن الحرب هناك تعنيه شخصياً، كما كان لافتاً أن كثيراً من الشعراء قرأوا بأكثر من لغة، في محاولة للتواصل والخروج من حواجز اللغات والاستغناء عن شخص آخر للإلقاء، وبعضهم ترجم نصوصه التي ليست لها خصوصية لغتها الأم بنفسه. أما صالات القراءات التي كانت موزعة على محافظات باريس فقد تميز من بينها معهد العالم العربي، و"بيت أميركا اللاتينية".
في معهد العالم العربي، كانت أمسية الشعراء الفلسطينيين أكثر النشاطات تنظيماً وحضوراً. مساء اليوم الثالث من المهرجان، قرأ الشاعر إبرهيم نصر الله الذي ينتمي شعرياً إلى جيل الثمانينات، قصائد احتفت بالوطن والأرض والحرية، كما قرأ كل من الشعراء مايا أبو الحيات وأنس عيلالي وأسماء عزايزة الذين ينتمون إلى الجيل الجديد قصائد انعكست فيها التفاصيل اليومية. ولم يكن عزف البيانو الحِرفيّ وحده ما أضفى أجواء ساحرة على المكان، فقد اتحد مع موسيقى اللغتين العربية والفرنسية واللوحات التشكيلية التي استخدمت كخلفية للمسرح.
شكَّل الشعر الإسباني الركيزة الأكثر فاعلية في المهرجان، ليس فقط بعدد شعرائه وخصوصيتهم، بل من خلال أمسية استمرت ثلاث ساعات في "بيت أميركا اللاتينية"، أحياها شعراء ينتمون إلى أجيال عدة من كولومبيا والأرجنتين مع عزف على القيثارة، وقد احتلت الرقة والغنائية والتنوع والعفوية أغلب نصوصهم، وهي الصفات التي يتميز بها الشعر الإسباني الذي مر نتيجة ظروف كثيرة بتجربة فريدة من التمازج مع الشعر الأميركي والأوروبي خلال القرن الماضي. كما غنّت الإسبانية كريستيان كورفوازييه قصائد لشعراء إسبان عاشوا الحرب الأهلية، أبرزهم بابلو نيرودا ولوركا ورافاييل ألبرتي (1902 - 1999).
افتقر المهرجان إلى ورشات العمل والكتيبات، على خلاف المهرجانات الشعرية الفرنسية التي تهدف في الدرجة الأولى إلى الخروج بكتاب أو عمل فني يحوي نصوص الشعراء مع دراسة عنها، ولا نستغرب الأمر إذا علمنا أن شخصاً واحداً يدير النشاطات كلها، هو الشاعر الفرنسي إيفان تيتيلبوم، الذي صرح بأن المؤسسات الثقافية الفرنسية الرسمية لم تتبنَّ المهرجان، فبقي جهداً فردياً.
كثير من الانفعال وتلاقي الثقافات جرى بين شعراء العالم في باريس خلال الأيام الماضية، الكل يقرأ، والكل يحاور، والكل يستكشف صدى قصيدته بين أناس من مختلف الجنسيات، غير أن ثمة غربة تنتاب الشاعر عند قراءة قصيدته بلغة لا يتقنها أغلب الحضور. هذا ما شعرته في أمسية "كلمات المنفيين"، رابع أيام المهرجان، التي قرأتُ فيها قصائدي بالعربية، وعلى الرغم من الغربة، فإن للمنفى اللغوي وجوهاً عدة تمحو المنفى الواقعي، وخصوصاً أن الحاضرين الذين لم يفهموا القصائد تفاعلوا بشكل لافت مع موسيقى اللغة العربية وانجذبوا إليها، ولعل في هذا ما يمنح الشاعر المنفي بعضاً من وطن.

ــــــــــــــــــــ
عمر يوسف سليمان
النهار:

http://newspaper.annahar.com/article/77580-المهرجان-الدولي-السابع-للشعر-في-باريس-قصائد-عن-الحرية-والحرب-والمنفى


السبت، 5 أكتوبر 2013

الشعر السوري في جحيم الثورة والحرب

يقترب الخصام حول الشعر السوري والثورة اليوم من خصام القدماء حول اللفظ والمعنى. فالثورة المعنى واللفظ الشعر، أو العكس. في خضم الأجوبة عن التساؤل الأهم: الشعر في الثورة أم الثورة في الشعر؟

إذا تجاوزنا هذه المعالجة البدائية التي تجعل أحدهما لباساً للآخر، وجدنا أن الفكرة الجديدة - بمعناها الأعمق كتفاعل أولي يقدح في المخيلة جنباً إلى جنب مع اللغة- تعني أن نصاً جديداً في طريقه إلى النور. الفكرة الجديدة نقطة خصبة تنبثق منها الدلالات الشعرية المختلفة. من هنا تساهم الثورة، كواقع، بتفاصيلها كافة، في أن تُحدِث ثورة داخل اللغة، شريطة أن تكون الثورة- الفكرة في داخل الشاعر. هكذا تلتقي الثورة بالشعر ليصبّا في نسيج واحد، ويصلا إلى نتيجة واحدة، تشبه تلك التي وصل إليها عبد القاهر الجرجاني حول اللفظ والمعنى، وتتلخص في أن الفصاحة ليست في كليهما، بل في السياق اللغوي للنص.
خاض السوريون كل ما يرافق التغيير من أقصى مشاعر القهر والاضطراب والخوف والقلق والتشرد والحماسة والتفاؤل والوحشة والغضب. هذا الخوض يعني أن تجربة خاصة وفريدة تتشكل في الحياة، تالياً في الشعر. أما أن يصنع الشعرُ ثورةً، فهذا ما لا يُنتظَر منه، لأن مهمة الشعر كمهمة باقي الفنون: أن تنحو بطريقة تعامل الإنسان مع الواقع إلى الأفضل عبر التأثير في الذائقة والمخيلة لإعادة تشكيل السلوك اليومي بطريقة غير مباشرة؛ بغض النظر عن موضوع النص الشعري، تلك المهمة المعقدة التي تناولها محمد النويهي في كتابه "الفن ومسؤولية الفنان"، بعيداً عن "المدرسة الواقعية" و"الفن للفن". يبقى تراكم الفنون، ومنها الشعر، عاملاً من عوامل اشتعال الثورة على الديكتاتور، من دون أن نحمِّل هذا العامل أكثر من طاقته.
فتحت وسائل الاتصال الحديث أمام السوريين أفقاً لتغيير اللغة الشعرية. هم، علاوةً على تواصلهم الذي تفجّر في الثورة بعد عقود من التفرقة والقمع، انتشر بينهم الـ"فايسبوك" كوسيلة للتعبير عن شجونهم بلغة مختصرة وعفوية. من هذه الممارسة اليومية للكتابة، صرنا نقرأ قصائد جميلة لأناس لم يكتبوا الشعر من قبل. فالنشر والتجريب أصبحا متاحين لكل الناس، ومنهما ينضج أصحاب المواهب ويختفي من لا موهبة له. لم يكن هذا التواصل حكراً على السوريين بالطبع، لكن خصوصية الشعر السوري تأتي من خلال الربط بين التواصل على الأرض والتواصل الافتراضي الذي تفجّر مع بدايات الثورة، ذلك أن ثورة الاتصالات جزء أساسي من الثورات العربية على الاستبداد.
ثورة الاتصالات، أو الثورة المعرفية، أتاحت لكلّ كائن أينما كان، أن يكون شريكاً في الثورة، ودفعته إلى الانفتاح على العالم والتماهي به. من جهة أخرى، زادت من عزلة الإنسان وانكماشه وبعده عن حياته الطبيعية ملتجئاً إلى عالم افتراضي مليء بالعشوائية والوهم. نحن إذاً أمام وجهين متناقضين من التغيير: الانفتاح العالمي والعزلة الفردية. هذا التناقض حدث مع السوريين في العالمين الافتراضي والواقعي. فعلى الرغم من أن الثورة أتاحت لهم التواصل والكشف بشكل لم يسبق له مثيل ربما، إلا أنها تحولت بعد سلسلة من العنف الدموي مصدراً للتشويش والعزلة والهرب من الواقع نتيجة اليأس.
إذا كان التناقض (أو التضاد) في الأشياء والكائنات منذ الأزل منبعاً دافئاً للشعر، ووسيلة الشاعر المثلى لإظهار الجانب الجمالي واللامرئي من العالم، فإن هذا التضاد الرهيب الذي نشهده اليوم هو الأبرز في تاريخ البشرية، فالبشر اليوم متقاربون افتراضياً إلى درجة أنهم في أقصى التباعد واقعياً. من هنا، من هذا التضاد الذي ينتاب كل فرد في كل بقعة على الأرض مئات المرات يومياً، يولد الشعر بأشكال جديدة تصنعها الحاجة إلى ترميم الشرخ الإنساني.
مفارقات وثنائيات
شيئاً فشيئاً سادت الحرب سوريا، فاحتلت المفارقات مشاهد الحياة اليومية للسوريين: إذ أيّ مفارقة أكبر من تعذيب طفل حتى الموت؟ أو من مشهد يحوي مئات الأطفال وهم مقتولون بالغازات السامة؟
ثنائيات متصادمة من الحياة والموت، الطفولة والاستبداد، الحلم والظلام، الحرية والطائفية، البراءة بأقصى حالاتها والوحشية التي بلغت درجة لا يحتملها العقل البشري. وإذا كانت الطفولة كنز الشاعر، فإنها في سوريا أصبحت بركاناً من الفجائع والمفارقات والتناقضات التي انعكست وستنعكس على الشعر.
كثيراً ما فجرت الحرب في الشعر، اتجاهاته وأساليبه ولغته المختلفة. نذكر هنا ما أفرزته الحربان العالميتان من أدباء ومدارس أدبية، من أبرزهم الشاعر الألماني غوتفريد بن 1886-1956 الذي أنشأ المذهب العدمي والقول بانعدام قيمة الإنسان والأشياء، والروائي والشاعر الألماني هيرمان هسه 1877-1962، رائد الرومنطيقية الالمانية وأنسنة الأشياء. أما الشاعر البريطاني جون ستولورذي فقد أرجع سبب غزارة الشعر البريطاني بين 1914 و1918 إلى الحرب العالمية الأولى، حيث يربو عدد الشعراء البريطانيين الذين كتبوا عنها إلى أكثر من ألفي شاعر (بي بي سي العربية، الموقع الإلكتروني، كيف تلهم الحرب الشعراء؟). في فيتنام صنعت الحرب الشاعر باو شان غوين الذي عاشها في طفولته فالتصقت يومياتها بقصائده حتى اليوم.
وكما أن التضاد كان من أهم عناصر الشعر العربي، فإن الحرب كانت منذ عصر ما قبل الإسلام رفيقة هذا الشعر، فقد كانت مهمة الشاعر تحميس الجنود ودفعهم إلى الكرِّ والإقدام، واستمرت هذه المهمة في عصور الإسلام مع فارق الطابع الديني الذي اصطبغ به الشعر. نجد هذا الطابع نفسه في ما أفرزته الحرب الإيرانية - العراقية من الشعر الفارسي، وغني عن الذكر ما أحدثته نكبة فلسطين في الشعر العربي حتى اليوم.
لا نستطيع أن نتنبأ بملامح الشعر السوري في المستقبل، لكن لا بد أن ثمة شعراً مختلفاً يتشكل اليوم في رحم الثورة والحرب. يكفي أن تنشأ تجارب شعرية جديدة وغير متوقعة، وأن تندثر تجارب أخرى وتنهار قامات شعرية، لنوقن أن شعراً جديداً يتشكل. أما الشعراء المكرسون فقد أصبحت قصائدهم أكثر تماهياً مع الحدث اليومي، بعضهم هاجر شعر التفعيلة إلى غير رجعة، وآخرون تخلّوا عن النصوص الطويلة والبلاغة لصالح العبارة التي تكتسب شعريَّتها - بعيداً من الصورة والمجاز- من الواقع الأقرب إلى الخيال، إضافة إلى مفردات الحرب والثورة التي اجتاحت معجمهم اللغوي.
يقول البعض إن كل ما حدث وما سيحدث ليس إلا حلقة مفرغة جديدة، ليس إلا وهماً، تماماً كـالـ"فايسبوك". لكن ما لا يستطيعون نكرانه، هو المختبر الشعري الجديد الذي بدأ يظهر، وإن كان كل ما حدث ويحدث وهماً، فإن الوهم العظيم يأخذ حيزه المهم من التأثير وتغيير الواقع أحياناً.

نماذج لشعراء نجوا من المباشرة والإيديولوجيا
في ما يأتي نماذج من نصوص شعراء سوريين نجوا من فخِّ المباشرة والإيديولوجيا حين كتبوا عن الظرف السوري في ازدحام الأخبار العاجلة، فاقتربوا من الحدث العابر، ولكن من دون أن يلغوا مسافة الرؤيا التي تتيح لهم التقاط الحدث وتحويله إلى كائن ثابت في اللغة الشعرية. علماً أن هذه النماذج مجرد قرائن تطبيقية للأفكار الواردة في البحث، ولا تمثّل جميع ما كُتب من الشعر في الثورة. فالنصوص المكتوبة خلال العامين الماضيين تضاهي من حيث الكمّ ما كتبه السوريون خلال العقد الأول من الألفية الثالثة.

عماد الدين موسى
"الزهرةُ التي منذ عامين/ الزهرةُ التي أينعتْ كشمسِ الظهيرة منذ عامين/ الزهرةُ التي فقدتْ لا بتلاتها فحسب/ بل غصنها أيضاً/ الزهرةُ التي ما من نبعٍ يسقي ترابها/ لذا اكتفتْ بالهواء الملوّث بالبارود/.../ الزهرةُ التي دهست عظامها دبّابة في رسمٍ لعلي فرزات/ الزهرةُ التي تغنّي كطائرٍ في قفص وترقص مذبوحةً/.../ الزهرةُ التي تركت الأبوابَ مفتوحةً أمام جميع الاحتمالات البشعة/ الزهرةُ التي لا حول ولا قوّة/ الزهرةُ التي خرجتْ إلى الشارع/ ما من أحد يقدر أن يعيدها إلى حضن أمها/ الغابة" ("الزهرة منذ عامين"، عماد الدين موسى، جريدة "المستقبل"، الأحد 17 آذار، 2013).
تسود النصَّ لغة متوترة مبنية على تتالي المبتدأ مع كل تركيب من دون أن نصل إلى الخبر حتى النهاية، وتأخذ مفردة "الزهرة" انحيازاً دلالياً يعاكس دلالتها المعتادة. الزهرة: الرقة والعذوبة ليست سوى "الثورة": الغضب. فالثورة اليتيمة التي وصلت إلى المجهول واستحالة الرجوع تنفتح أمامها كل احتمالات البشاعة، مثل الزهرة المقطوفة "التي خرجت إلى الشارع".

مها بكر
"فصيحٌ مرئيٌ شاهقٌ مظلمٌ حزينٌ سعيدٌ عذبٌ، أجاجٌ هو دمكِ/ وشهدكِ باهظٌ/ من زهر العذاب/ من نقيِّ عظامنا/ كم مرّةً عليَّ أن أموت لأقتحم خوفي وأبلغ بياضكِ/ كم مرّةً عليَّ أن أبذل أصابعي كي تكون يداكِ لي/ وكم مرّةً عليها دير بعلبة أن تنطفئ/ كي تبقى زهوركِ متوهجة أيتها الحرية؟" ("اسكبْ بعضاً من حبركَ على قبري إن مرَّ خيالك به"، مها بكر، مجلة "أبابيل" الشعرية، العدد التاسع والأربعون، كانون الثاني، 2012).
يبلغ الصراع حداً لا تجد الشاعرة طريقة للتعبير عنه إلا بما يمكن أن نسمِّيه: تجميل الفجيعة، وذلك بسحب صفاتها على نقيضها: الخلاص. فــ"البياض" الذي كثيراً ما يرمز إلى الموت/ الفجيعة صار رمزاً للحرية/ الخلاص، و"زهور الحرية" المتوهجة مستمدة من "زهر عذاب" في دمها العذب الأجاج.

محمد علاء الدين عبد المولى
"مغلَّفٌ جسدي بتابوتٍ غير مرئيّ/ هاتفي تئنّ فيه صرخاتُ القتلى/ تنحني في رسائله كلمات المغتَصبات/ وعلى ظَهري حقيبةٌ كلّما مشيتُ خطوةً يقع منها منزلٌ مدمّر/ أو وطنٌ مقطوعٌ من جغرافيا" ("قصائد 5 آذار 2012"، محمد علاء الدين عبد المولى، من ديوان "مجازات مكسيكية" صدر عن مؤسسة "sederec" المكسيكية، 2013).
الجسد، الهاتف، الحقيبة، هذا ما تبقّى للسوري المغترب. أشياء تجتاحها الحرب، فالسوري خارجها، لكنها داخله، تابوته "غير مرئي"، إذ لا يرى معاناته أحد، وثمة منزل دُمِّر لكنه يحمله أينما ذهب، هي دلالات الموت البطيء أو الموت اغتراباً حتى عن حالة الموت نفسها.

تمام التلاوي
"تعال لنشكرَ قاتلنا يا صديقي/ لأنه أخطأنا وأصاب الصبيّ الشقي الذي طالما كان في الحيّ يقلق نومكَ بعد الظهيرة/ ظنّ قذيفتَهم كرةً/ فتصدّى لها بجسارته/ مثلما كان دوماً يصدّ الكرات/ ويصرخ في اللاعبين/ ولكنه الآن فاز بلعبته/ دون أي صراخ على القاتلين/ هو الآن فاز عليكَ وفاز عليَّ ونام إلى أبد الآبدين) ("الصورة سيريا"، تمام التلاوي، من صفحة الشاعر على الـ"فايسبوك").
تكاد السخرية تكون طابعاً عاماً للشعر في الثورة السورية، إذ قلما يخلو نص من كوميديا سوداء ضمنية أو واضحة: يتكرر تجميل الفجيعة هنا كردّ فعل على حالة الإحباط الهائل، وذلك من خلال البحث عن وجه إيجابي للموت- ولو كان عبثياً- بلغة سردية هادئة تبطن كماً كبيراً من الألم والسخرية.

صلاح ابرهيم الحسن
"قال لي الموت وهو يمرّ من تحت الشرفة: أصعد أم تنزل/ فأجبت: بل تصعد وأصعد/.../ الموت ليس صديقي/ لكنني اعتدت عليه/ كما اعتدت في السابق/ على جابي الماء والكهرباء ومحصّل الضرائب وصاحب البيت/ اختفوا جميعهم الآن/ وبقي الموت الذي يزورنا يومياً/ يعمل بجدٍّ/ ولا يكترث لتضرعاتنا/ بالأمس قال لجارنا: أرواحكم مسبقة الدفع/ مثل فاتورة الهاتف المحمول/ ومثل صفقة الصواريخ الأخيرة/ وجبى روحه" ("مقاطع من أطوار الموت الغريبة"، صلاح ابرهيم الحسن، مجلة "فضاءات أدبية"، العدد الأول، تموز، 2013).
يقترب الشاعر من اللغة اليومية من دون أن ينتمي إلى شعراء اليوميات، والمجاز "جبى روحه" موظف لصالح السخرية الحادة، إلى درجة أن الشاعر يؤنسن الموت ويمنحه وظيفة اجتماعية أيضاً.

أحمد م. أحمد
"أراكَ خارجاً من دار المجزرة/ دون أن تستطيع حنجرتكَ نطق التعازي/ وكنتَ تنفخ زفيركَ متهدِّجاً عالياً/ لكي تتفادى أذناكَ وهن الأذان/ فتغالب فكرةَ وجودكَ المهتوك، وغيابَهم/.../ إن يكنْ في قلبكَ ألفُ قصيدة حبّ/ وفي رأسك ألفُ رواية/ إن تكن الحضارةَ/..../ إنْ وإن.../ فلن تزيد عن مساحةِ منظارِ ذلك القنّاص/ ذلك القنّاص الذي لو يدري أنّ وسعكَ السموات/ لسدّد الفوّهة إلى قلبه الفاغر/ ليقنص قلبه السوريَّ الثاني" ("قناص القلب"، أحمد م أحمد، من صفحة الشاعر على الـ"فايسبوك").
يتوالد التضاد بكثرة في تراكيب النص: دار المجزرة، الحضارة- مساحة منظار، السموات- فوهة، يقنص قلبه، وجودك- غيابهم، لكنه ينتهي إلى اتحاد قلب الضحية بالقلب الغائب للقاتل، الذي لا يستطيع أن يراه إلا برؤية قلب الضحية والتحرر من "قلبه الفاغر" المتوحش الخالي من القلب، والذي يبتلع فيه "قلبه السوري الثاني".

يزن عبيد
"يعشق الغرباء ويمنحهم قلبه/ هو يعلم أنهم راحلون/ يتقن الهروب من أول الحكاية إلى آخرها/ متفائل بالفراغ/ لا وقت لديه إلا ليمدح فنجان قهوته الصغير ويستكثر "صباح الخير" على فرشاة أسنانه/ يشتم قلبه وقدمه/ قلبه وقدمه بلا تاريخ وكذلك جيوبه المنتفخة بالمستحيل/ متعب مثل أي مدخنة/ وشاعر تراوده فكرة الانشقاق لصالح الينابيع/ في الليل يفتح خزانته ليشاهد هداياه/ هداياه التي اشتراها لنفسه/ لا أحد يعرفه/ لا أحد يذكره/ لا أحد يقتله/ بيد أن الصباح ينقش على أرصفة المدينة ظلَّ دمه لو مات" ("كتاب الغريب"، يزن عبيد، من صفحة الشاعر على الـ"فايسبوك").
يحتفي النص بالتفاصيل اليومية لشاعر منسي لجأ إلى نقيض الثورة: الاكتئاب والعزلة بسبب واقع باهظ المرارة، أما مفردة "دم"، التي كثيراً ما تدل على الموت، فإنها تأخذ دلالة مغايرة: ما تبقى من المكنون الحقيقي للشاعر المغلف بالدمار النفسي والخوف والخطر. لكن استمرارية هذا المكنون السري/ الحياة؛ رهينة بالموت، فالموت هنا حلّ لموت آخر أكثر عدَماً.

على سبيل الخلاصة
تتنوع الضمائر الثلاثة، المخاطب والغائب والمتكلم بشكل كبير داخل النص الواحد أحياناً في شعر الثورة السورية، كمرآة لحالة الاضطراب الذاتي. وفي النصوص السابقة يتكرر ضميرا المخاطب والغائب اللذان يزيدان من سرعة إيقاع النص على حساب ضمير المتكلم الذي يمنح النص بنية إيقاعية بطيئة، بعيداً من النبرة الخطابية. فالنصوص مشغولة بلغة وجدانية تعالج الحدث من بعيد، وتنفذ إلى النكبة العامة من خلال التفاصيل الصغيرة أو الحزن الشخصي والعالم الداخلي.
إضافة إلى الانحيازات الدلالية التي أشرنا إليها، والتي تعكس صدمة التحولات الكبيرة والمفاجئة، فإن المفردات التي تصبّ في الحقل الدلالي للثورة السورية والحرب تحتل النصوص السابقة: مجزرة، دبابة، دهست، قناص، قذيفة، قاتل، صواريخ، فوهة، سدَّد، مذبوحة، انشقاق، تابوت، صرخات، مغتصبات، مدمَّر، أقتحم، خوف، تضرُّع إلخ. هذه المفردات وما يشبهها، أصبحت تغطي جزءاً كبيراً من المعجم اللغوي للشعراء السوريين، تماشياً مع ما حلّ في حياتهم اليومية من مآسٍ وخراب.

ــــــــــــــــــــ
عمر يوسف سليمان
النهار- الملحق
5 تشرين الأول 2013
http://newspaper.annahar.com/article/72827-الشعر-السوري-في-جحيم-الثورة-والحرب

الاثنين، 23 سبتمبر 2013

أجملُ ما في هذه الحربِ أني لم أمتْ!

كم كانَ جميلاً أني قطعتُ ‘شارعَ الموتْ’
كانتِ الحياةُ كفَّ طفلةٍ تلوِّحُ في الجهةِ المقابلة
قرأتُ فيهِ ما مرَّ من حياتيْ
فلم يكن سوى تمرينٍ على ما سأعيشُهُ حقاً!

كم كانَ جميلاً أنَّ أحداً لم يبكِ في تلكَ الظهيرةِ
فالمقتولُ كانَ مجهولَ الهوية
حين مددوهُ على الأرضِ تبخَّرَ
ثمَّ تشكَّلَ غيمةً أحاطتْ بالكاميرا التي في يديْ
فلم ألتقط سوى’بطاقتِهِ الشخصية: رصاصةٍ فجَّرت رأسه
وبين الرصاصة والكاميرا رأيتُ الحياةَ ثوبَ أمي الطويلْ
ذلك الثوبُ الذي كنتُ أستمسكُ بهِ طفلاً
وهي تهمُّ بالرحيلْ

كم جميلٌ أننيْ أتشفَّى بكَ
أتغداك قبل أن تتعشانيْ
واحدة بواحدة:
دمَّرْتَ بيتي
رقصتُ وحيداً في العراءِ
قطعتَ رجلَيْ أخي
اشتريتُ حذاءً جديداً على مقاسهما
أخذتَ صديقيْ
فنظرتُ إليكَ بزاويةِ عينِ الثعلبِ
وأنا أمشيْ على الحبالْ
أنتَ لا تعيشُ إلا على زوالِ الآخرينَ
لذلكَ لمْ أعد أعيشُ إلا على زوالِكَ
أيها الموتْ!

جميلٌ كل ما سبق
جميلٌ ما صنعَ الموتُ في هذه الحربِ
وأجملُ منه أني لم أمتْ

ما قيمةُ المرآةِ لولا العينُ؟
ما قيمةُ ما ماتَ فيه الموتُ لو كنتُ ميتاً؟
/
شكراً سيدي: موتْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القدس العربي:
http://www.alquds.co.uk/?p=86498

الثلاثاء، 17 سبتمبر 2013

مهرجان ‘شعراء في باريس′

باريس ـ ‘القدس العربي’: تستضيف دور الثقافة وصالات المسرح في باريس شعراء من مختلف الجنسيات للمشاركة في الدورة السابعة للمهرجان الدولي (شعراء في باريس)، والذي اختير له عنوان (الشعر والسياسة) لهذا العام.
في لفتة واضحة إلى مدى تقاطع الشعر مع السياسة بكل ما تأخذه هذه العلاقة من إشكاليات وأضداد، وذلك بين تاريخي 15-19 أكتوبر، وبرعاية مراكز ومؤسسات ثقافية فرنسية وعربية، وقد اتخذ منظم المهرجان الشاعر الفرنسي إيفان تيتلبوم من عبارة أفلاطون (الذي لا تشغله السياسة لا يشغله شيء) شعاراً للمهرجان الذي يهدف إلى إعادة إحياء الشعر وتنمية المواهب الشعرية.
تتنوع أنشطة المهرجان بين قراءات شعرية وأمسيات موسيقية ومسرحية وعروض أفلام ومحاضرات نقدية وطاولات حوار، مع تخصيص فعالية للشعراء الفلسطينيين، وأخرى للشعراء المنفيين، ويُختتم المهرجان بتكريم الشاعر الفرنسي الراحل: ماكس جاكوب، يليه عرض مسرحي لقصائد مجموعة من الشعراء العالميين: أراغون، سيزير، ديسنوس، إلوار، سيغيرس، لوركا، غيين، لانغستون هيوز، نيرودا، ليوبولد سينغور..
يشارك في المهرجان شعراء من أوروبا والأرجنتين وإفريقيا الجنوبية والإكوادور، أما الشعراء العرب فهم: إبراهيم نصر الله، داليا طه، باسم النبريص، أنس عيلالي، مايا أبو الحيات، أسماء عزايزة، (
فلسطين)، عمر يوسف سليمان (سوريا).

الخميس، 22 أغسطس 2013

غوغل لا يعثر على قميص فتاتك

ادخلْ قبليْ واشترِ قنينتين
بل أربعاً
الفكرة التي راودت أول طائرٍ على الأرضِ كانتْ: أن يطيرَ!
طارَ تاركاً الفكرَةَ فوقَ الأرضْ
صارتِ الفكرةُ باراً
لهذا فإنَّ البارَ يطيرُ بمنْ سئموا ثقَلَ الهواءِ والأسئلة
/
ادخلْ قبليْ واتركِ الشِّعرَ وارءكَ
فالخمرُ
وابتسامةُ غمازة البائعة يكفيان جراحنا
لا طاقة بنا لحملِ المزيد من زهورِ النارِ
ومن لسَعاتِ الرقةِ والندمْ
ادخل دوني
وعندَ الزاويةِ الفضيةِ نلتقيْ
/
لدينا زاوية وحيدة مهملة
نعثر فيها على كل ما نحتاجُهُ من ورودِ الشَّكِّ
ومن سناجبِ العذوبة
فغوغلُ لا يعثرُ على أحدٍ يبحثُ عن وجهه
غوغلُ لا يعثر على قميصِ فتاتكَ المبللِ بالشهوةِ والكرز
غوغلُ لا يعثر على اسمٍ أطلقتموه مجازاً على إحدى غرفِ البيتْ
إسمٌ لم يتجاوزِ العتبةَ
فظلَّ طفلاً أبدياً وحيداً
ورحلتمْ!
/
إنه حجُّنا يا صديقي، حجنا الأبدي، نحن الأقوياء كما ينبغي، يحرقنا وهج النور الذي يتدحرج كالأسماك على شرفات المدينة، تحرقنا الأساطير والصعاليك والمتمردون، يحرقنا عطرُ الغواةِ الذينَ مروا في باريس التي تحرقنا من شدة اللذة، فنتبعهم مستنيرينَ بقناني الكحولِ، وفي الكحول طريقنا الصافي كعيونهم.
/
أقوياء نحن، ولأننا كذلك تحرقنا أضعف فراشة هنا.
/
سنذرع هذه الشوارع النظيفة الحمراء
هذه الشوارعُ مطبوعةٌ فوقها قبلاتُ الشعراءِ إلى جانب الحوالات المصرفية
وطافحٌ فوقَ سطوح منازلها صوت (جاك بريل) كأزهار البابونج في أيلولَ
وفي ظل منازلها سيولٌ من الحرير والفياغرا وزرقة الليل.
/
سنمشط بيوت القرميد بأعيننا ثم نغادر
سنغادرْ
وعلى الجميع أن نغادر
فنحن ملوك الزمان الجديرونَ بأن لا يراهم أحدْ!.
ـــــــــــــــــــ
عمر يوسف سليمان
 
القدس العربي:

الأربعاء، 24 يوليو 2013

(الشِّعر في قلب العالم).. لغةٌ واحدةٌ بلغاتٍ عدَّة




صدرت حديثاً عن جمعية (بيينال الدولية للشعراء)biennale internationale des po’tesالفرنسية أنطولوجيا شعرية حملت عنوان ‘الشعر في قلب العالم’، وقد ضمت قصائد لسبعة وعشرين شاعراً وشاعرة من القارات الأربع: أميركا وإفريقيا وأوروبا وآسيا، وذلك في إطار فعاليات المهرجان الذي شارك فيه هؤلاء الشعراء، وهو مهرجان يهتم بالشعر الذي يلامس قضايا التحرر في العالم، وتنظمه الجمعية في شهر أيار/ مايو من كل عام في محافظة (فال دو مارن) الباريسية الشهيرة باحتضانها للحركات الثورية لا سيما اليسارية منها، بالإضافة إلى معاهدات السلام، فقد وُقعت اتفاقية إنهاء الحرب الفيتنامية في هذه المحافظة عام 1973.

ركزت الأنطولوجيا على النصوص التي كتبها شعراء عاشوا حربَي الفيتنام وجنوب إفريقيا، فقد ضمت قصائد للشاعر الفيتنامي (باو شان غوين) الذي عاش أهوال الحرب في طفولته فانعكست بتفاصيلها اليومية على تجربته الشعرية، أما شعراء جنوب إفريقيا، فقد شارك ثلاثة عشر شاعراً عاشوا تجربة النضال ضد النظام العنصري، (جنوب إفريقيا تعيش في قلوبنا كفرنسيين، حتى أصبحت جزءاً منا، فمنذ أن دخل مانديللا السجن نزلنا إلى الشارع لنكون جزءاً من المقاومة الشعبية هناك)، هذا ما كتبه (فرانسيس كومب(francis combes مدير الجمعية في مقالته التي قدم بها الأنطولوجيا. ومن أوروبا شاركت الشاعرة والكاتبة المسرحية الأسكتلدنية المعروفة (كارول آن دوفي)، بالإضافة إلى شعراء فرنسيين من أصول إفريقية، ومن جنوب أميركا شارك كل من الشاعر الهاييتي (جيمس نويل)، والشاعرة والناقدة الأرجنتينية: (روكسانا بايز).

لا يجمع بين قصائد الأنطولوجيا ثقافة أو تاريخ أو فكرة أو لغة، فقد كُتبت باللغات الإنكليزية والإسبانية والكرواتية والرومانية والفيتنامية والهنغارية والهولندية والخوسية، ثم تُرجمت إلى الفرنسية، ويقول فرانسيس في مقدمته عن هذا التعدد: (لأننا نعيش في زمن انفتاح الهويات بمختلف دلالاتها على بعضها البعض، فإن الشعر- الذي تعددت أشكاله وأنماطه بشكل غير مسبوق- هو الطريقة الأمثل للتعبير عن وحدة الإنسانية وتقاطع اللغات، فاللغات تختلف، لكن من حسن حظنا أن اللغة الإنسانية مشتركة بين الجميع، كما قال فيكتور هيغو ‘الشعراء لا يخلقون اللغات، بل يسكنونها’، لذلك فإن ما يجمع بين هؤلاء الشعراء شيء واحد: همهم في بعث الإنسانية من جديد).

وعن عنوان الأنطولوجيا كتب: (‘الشعر في قلب العالم’!، هذه جملة غريبة، فبالنسبة إلى معظم الناس اليوم قلب العالم هو السوق والاقتصاد والمال، لكن الحقيقة أن قلب العالم لا ينبض بالنقود، بل بالحاجة إلى المعرفة والاتحاد والحب، والشعر بمختلف وسائله بحث عن جوهر الحياة وعمق الحقيقة، وكما قلنا ‘الشعر في قلب العالم’، فإننا نقول إن شعراء اليوم لديهم اهتمام كبير بهموم العالم أينما كانت، وليس بهمهم الفردي، الشعراء يسكنون على كوكب الأرض، ويرفعون أفراحه وآلامه حتى تصبح كوكباً آخر: الشعر، ولا يمكن لنا معرفة الأرض إلا من خلال هذا الكوكب الذي قد يبدو خيالياً، لكنه الطريق الأمثل لاكتشاف الواقع).

‘الشعر في قلب العالم’، هو عنوان ديوان صدر عام 1919 للشاعر الفرنسي ‘بليس ساندغاس)، وعنه يتحدث فرانسيس: (عندما نختار هذا العنوان فإننا نشكر الشاعر والرحالة والجندي المصاب في الحرب العالمية الأولى، نشكر المزارع والمهرج وصانع العسل، هذا الإنسان باهتماماته المختلفة يمثل مدرسة ‘الروح الجديدة’ أو ‘شعر المستقبل’. عُرف بليس بأسفاره الكثيرة، فقد دار العالم، وفي إحدى قصائده كتب ‘قطعت اليوم باريس سيراً على الأقدامِ كما لو أنني قطعتُ جبال الأوندو الأمريكية/ كل العالم موجود في كل مكان، فالحياةُ لا تغير مفاجآتها حسب الأمكنة’.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
عمر يوسف سليمان

القدس العربي

http://www.alquds.co.uk/?p=65735

الأربعاء، 3 يوليو 2013

(مونولوجات غزة) في باريس.. الزمن الذي لا يمر


 
تحويل شهادات أطفال غزة الذين عاشوا أحداث الحرب إلى عملٍ مسرحي، كان هذا مشروع فرقة (عشتار) المسرحية، والتي قامت مع بداية العام 2010 بتدريب 33 طفلاً وطفلة في غزة و من خلال استخدام أسلوب مسرح المضطهدين والعلاج النفسي عن طريق الدراما، والكتابة الإبداعية, لينتهي التدريب بكتابة مونولوجاتهم الذاتية حول تجربتهم الحياتية تحت الحرب وفي ظل الحصار.

(مونولوجات غزة)، الذي ترجمته الأكاديمية الفرنسية (ماريان فايس) إلى اللغة الفرنسية، وصدر حديثاً عن دار (فضاء اللحظة) في فرنسا، تمت قراءة بعض نصوصه من قبل ممثلين عرب وفرنسيين في (بيت أوروبا والمشرق) في باريس بمناسبة صدور الكتاب، كان قد عُرض عام 2010 في فعالية ضخمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بمشاركة عدة دول وبلغات عدة، إضافة إلى تمثيله من قبل الأطفال أنفسهم في غزة.

ترجمة هذه المونولوجات إلى الفرنسية بعد ثلاثة أعوام من كتابتها يؤكد أنها لم تكن عبارة عن عمل مرتبط بالمناسبة فقط، حيث كثيراً ما تصنع الحروب أعمالاً تختفي مع الوقت كما اختفى أغلب ما سُمي بـ(شعر المقاومة)، ولعل ارتباط العمل بالأطفال وعفوية الكتابة وبساطتها وبعدها عن البلاغة، إضافة إلى ازدواجية الهدف: العلاج النفسي والفن، كلها أسباب صنعت له الانتشار والديمومة، فالناس في كل مكان شغوفون لمعرفة ما جرى في كواليس الحرب بعيداً عن الإعلام، لا سيما الكواليس المرتبطة بالحياة اليومية، كما أن هذه المونولوجات ليست بعيدة عن الأحداث الراهنة في تلك المنطقة، ولا عن النظرة التي تعم العالم تجاه مستقبل البشرية الذي يبدو أكثر سواداً، ما يجعل زمنها خارج مفهوم مرور الزمن، وكأنه يحدث الآن.

في حرب غزة التي وقعت بين كانون الأول 2008 وكانون الثاني2009، والتي راح ضحيتها 1,380 بينهم 431 طفلاً، كان الأطفال يرتدون أجمل ملابسهم، فقط كي (يموتوا بشكل جميل)، ولم يكن لديهم سوى خوف واحد: أن يتحولوا إلى أشلاء فلا يكونون جميلين بعد موتهم، هذه العبارة التي قالتها طفلة في الفيلم التوثيقي عن العمل، والذي عُرض في (بيت أوروبا والمشرق) قبل القراءة، تؤكد التحول الذي يطرأ على نفسية الطفل في الحرب، حتى على صعيد أحلامه، فقد كبر عشرات الأعوام، ولم يعد طفلاً.

مثَّل الأطفال آنذاك على خشبة المسرح أدوارهم الحقيقية التي سبق أن عاشوها على مسرح الحرب-إن صحت التسمية-، فالحرب (انتهت على أرض الواقع لكنها لم تنتهِ في رؤوسهم)، تجربة الحرب التي تفجر أقصى ميول الشخص ونوازعه وطاقاته، نجدها في هذه المونولوجات التي لم توحدها رؤية أو توجه، فبينما (غزة علبة كبريت وإحنا العيدان اللي جواها)، كما كتب أحد الأطفال، كتب آخر (غزة طيارة حاملة الناس ومسافرة ع المجهول، لا هي حاطه بالجنة ولا حاطه بالنار، إمتى راح تهبط الله أعلم)، أما التجربة الأشد مرارة فهي تجربة ما بعد الحرب، حيث إن الأطفال قد تغيرت نفوسهم ونظرتهم إلى الحياة، فبالإضافة إلى الفوبيا التي يُصابون بها من أشياء لا تستدعي الخوف، يتولد لديهم كثير من أنواع السلوك الغريب تجاه الحب والألم والطموح والتعاطي من الأشياء والكائنات، لذلك كان تدريب الأطفال بإشراف أحد الأطباء النفسيين الذي لم يُخفِ في الفيلم مفاجأته بالتغير الكبير على صعيد إعادة الثقة والتوازن الذي حدث في نفوس هؤلاء الأطفال، فهم(قبل العمل المسرحي ليسوا هم بعده!)، كما أنهم بعد الحرب ليسوا هم قبلها، وهذا ما يقره جميع أطباء علم النفس: علاج الأمراض النفسية من خلال الإبداع، لا سيما الأطفال والمراهقون الذين يستطيعون أن يتجاوزا المرض بشكل أكبر-إذا ما عولجوا-لكونهم في مرحلة النمو.

تجربة (مونولوجات غزة) لم تكن الأولى في العالم العربي، فقد سبق أن أحيا (مسرح المدينة) في بيروت تجربة مشابهة عام 2006، هدفت إلى علاج أطفال لبنان المتضررين من الحرب اللبنانية الإسرائيلية آنذاك، هي تجربة مغرية وضرورية للمسرحيين في بلدان أخرى تشهد أحداثاً مشابهة اليوم، لا سيما سوريا، حيث يعيش الأطفال ظروف الحرب الأهلية، وحيث تمتلئ مخيمات اللاجئين السوريين بالتجارب المذهلة التي عاشوها، والطريقة الأفضل لعلاجهم ونقل تجاربهم الغنية بمفارقات الحياة أثناء الحرب هي المسرح، ولعلنا سنحتاج إلى كثير من المسرحيين وأطباء النفس في منطقتنا خلال الشهور والسنوات المقبلة!.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عمر يوسف سليمان
القدس العربي

http://www.alquds.co.uk/?p=59956
 

الأحد، 30 يونيو 2013

إحدى حدائقَ حمصَ كانت مقبرة



إحدى حدائقَ حمصَ كانت مقبرة
يومُ الخميسِ وقبَّةٌ بيضاءُ والآسُ المُمَدَّدُ كالشهيدِ أمامَ جامعِ خالدٍ
للآسِ أكفانٌ من الجُمل المدورة التي كُتِبَتْ بحضنِ القبةِ البيضاءِ
ينقُلُها الغروبُ..
سيغرسونَ الآسَ في قبرٍ لآسٍ ماتَ في يومِ الخميسِ الـ راحَ
-من في القبرِ؟
-إنسانٌ وآسٌ
ثم آساً إثر آسٍ
نسغهُ دمُ من غفوا في القبرِ..
سادَ
فصارَ نبضُ الآسِ: حلمهمُ الذي لم يكتملْ
أشكالُهُ: من ذكرياتهمُ العتيقة
والعطرُ: خيطانٌ لهمْ لم ينسجوها
أجلوها
ثم زاغَ النولُ عنهم فجأةً
فلقدْ أتى ثوب الحقيقة
***
إحدى مقابرَ حمصَ صارتْ قبلَ أعوامٍ حديقة
ويُقالُ: هذا كانَ فعلَ الحاكمِ العربيِّ
لكنَّ الحقيقةَ لم تزلْ في القبةِ البيضاءِ حيثُ الحرفُ فوقَ ابنِ الوليدِ يضمُّ سرَّ الدائرة
***
يومُ الخميسِ الآنَ لا للآسِ
بل كي يحفرَ الأبناءُ مقبرةً
فجمعتهمْ: تصابي الموتِ في طرقِ المدينةِ
!في الظلامِ تضيءُ حمصَ قنابلٌ وعيونُ قناصٍ
وأزرارٌ تديرُ مصيرَ قلبٍ بالقذائفِ
بينما الأبناءُ في تلكَ الحديقةِ يحفرونَ قبورهمْ
جسدُ المدينةِ لم يعدْ يكفيْ لهمْ؟
أم أنَّ من سننِ المقابرِ أن تعودَ كما الحضارةُ والصدى؟
أم أنَّ من ماتوا أرادوا أن يقوموا من جديدٍ في بلادي؟
الآسُ يعلمُ وحدهُ
والسرُّ في الجُمَلِ المدوَّرةِ
التي ترتدُّ مثلَ الدائرة
!إحدى حدائقَ حمصَ عادتْ مقبرة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القدس العربي

http://www.alqudsalarabi.info/index.asp?fname=today%5C18m12.htm&arc=data%5C2013%5C02%5C02-18%5C18m12.htm
 

صانع الفخار


(إلى دريد رحال)

الأرضُ: جرَّةٌ مسنودة بحجرٍ مجنونْ

/
وأنتَ تعجنُ نبضَ الماءِ بعروقِ التراب

وأنتَ تعجنُ آلهةً من طين

تشكِّلُ ما يريدُ أن يكونهُ ثغرُ الشاعر:

فراشةً تطيرُ إلى الأبدْ



فخارُكَ: النبيذُ الأحمرُ الذي نسينا أن نشربهُ نحن جيل الثورة

لأننا كنا مشغولين بالبحثِ عن غاية الدم المسفوك!

قلنا:

ليلةً ما سيصلُ البدرُ الذي يضيءُ حجارة الشوارع

ليلةً ما سندركُ أن للحجارةِ شكلَ وجوهِ آبائنا

ليلةً ما سنكونُ قناطرَ أنهارِ القرى الخضراءَ في آذار

ليلةً ما

وما علمنا أنه ما من شيءٍ  يضحكُ فوق الأرضِ سوى البكاءِ

وما من أحدٍ يرفعُ رأسهُ دائماً غير الخرابْ ...

/

من نافذةِ الضوءِ التي تطلُّ على يديكَ العاريتينِ

أرى كل شيء ككل شيء

لا شيء يغريني سوى غبارِ الضوءِ

الهباءُ: هو الماءُ والترابُ

وكل ما عداهُ آلاتٌ لصنعهْ

الهباء هو المعنى

الهباء هو الفضاءْ

/

يشدني ضوءُ النافذةِ إلى مكانٍ لا أعرفه:

غابةٍ ضائعةٍ مثلي

ورقٍ يابسٍ

ورقٍ أخضرَ

شبَّاكٍ من سَعَفٍ أرى منهُ وجهي في الأفق

غابةٍ أقفُ فيها تمثالاً مكسوراً

وشيئاً فشيئاً أعودُ صلصالاً يمتدُّ حتى رحمِ أميْ

/

كان البابُ بلا قفلٍ

والرفاقُ في الخارجْ

شبَّكت أصابعها بما يشبه ابتسامة

فابتسمتَ

كانت أوَّلَ غزالةٍ

على ظهرها آثارُ حناءٍ

على الحناءِ سكبتَ ينابيعكَ فصارَ فخاراً

على ظهرها قرأتَ:

لا شيء يخلِّد الينابيعَ سوى الأنثى

ولا شيء يخلِّد الأنثى أكثر من أن تنحتَ شهوتها كما تشتهي

النشوة: طعمِ الماء البارد في الفخارِ

ومن يومها صرتَ صانعَ فخارٍ

ومازالتِ الابتسامةُ محفورةً على ظهرِ الغزالة المعلق في ضوء نافذتكْ

/

كلما أنهيتَ فخارةً يا دريد

تموتُ

تموت لتولدَ

كي تنهيَ فخارة أخرى

ولا تنكسرْ


باريس

2/4/2013

ــــــــــــــــــــ

الإمبراطور:

http://www.alimbaratur.com/index.php?option=com_content&view=article&id=2510

الاثنين، 24 يونيو 2013

(سوق الشِّعر) في باريس.. الفن الحاضر بقوة

 

 
عمر يوسف سليمان
لا يبدو «سوق الشعر» الذي احتل حوالي 400 متر مربع من مساحة حي «سان سولبيس» الباريسي مجرد خيم بيضاء منصوبة لعرض دور النشر آخر إصداراتها الشعرية، فعلى الرغم من كمِّ الكتب الهائل؛ إلا أن السوق تحول إلى عمل فني بحد ذاته، فقد اتحدت اللوحات التشكيلية المعروضة في أرجاء السوق مع المنحوتات التي حُفرت عليها القصائد، بالإضافة إلى الآلات الموسيقية وصور أهم الشعراء الفرنسيين وأغلفة الكتب والأمسيات الشعرية بلغات عدة، كل ذلك مقابل كنيسة أثرية عريقة تتوسط الحي وتحمل اسمه.
كما كل عام، افتُتح يوم الخميس 6 حزيران «سوق الشعر»، marché de la poésie الذي تتنوع أنشطته بين بيع الكتب والأمسيات الشعرية والموسيقية، وبين محاضرات عن الشعر وحفلات توقيع وجوائز وحوارات مفتوحة بين الشعراء والناشرين ووسائل الإعلام.
اشتركت في «سوق الشعر» أربعمئة جمعية ومجلة ودار نشر، من داخل وخارج فرنسا، كانت أشهرها دار «غاليمار»، ودار «أكثر من عنوان» المتخصصة بنشر الشعر والرواية، وجمعية «أتاتورك» المتخصصة بالأنشطة الثقافية للمهاجرين الأتراك في فرنسا، ودار «أبسالون» المتخصصة بنشر الأدب النمساوي، وجمعية «فنون باريس الخضراء» Arts verts de paris صاحبة المطبوعات الشعرية التي ترافقها لوحات فنية، وجمعية «جفون الأرض» الخاصة بطباعة الكتيبات الشعرية، ودار «آدن» البلجيكية، و«بيت الشعر» في باريس، في حين خلا سوق الشعر من دور النشر العربية على الرغم من وجود مشاركات لكتّاب من أصل عربي، أهمها مشاركة المفكر والمترجم المغربي عبد اللطيف اللعبي، ومنها كتابه: المغرب، «أي مشروع ديموقراطي؟».
أما ضيف الشرف لهذا العام فقد كان «الشعر الإيرلندي»، الذي استُضيف فيه كبار الشعراء الإيرلنديين: جوزيف وود، جون مونتاج، ومارتين شاردوكس، في فعالية «الطاولة المستديرة»، ثم قراءة شعرية باللغات الثلاث: الإيرلندية والإنكليزية والفرنسية، شاركت فيها الشاعرة بيدي جانكسون، وتلتها أمسية موسيقية لعازفي جاز وساكسفون.
في اليوم الثاني من سوق الشعر، كانت لافتة مشاركة تسع وخمسين شاعرة فرنسية بقراءة قصائد كانت قد نشرتها دار «أنثى الحبر» في أنطولوجيا «ليس هنا، ليس في أي مكان آخر» عام 2012، وقد تنوعت بين اليومية والوجودية وسط جمهور كثيف قطع الطريق الدائري الواصل بين أرجاء السوق.
«الشعر والصورة»، كانت تلك الفعالية هي مشاركة الشاعر الصيني «يو زو» في اليوم الثالث، حيث عرض فيها قصائد مصورة، وكانت دار «باسيفيكا» قد أصدرت كتاباً عنوانه «الشاي والشعر الصيني الكلاسيكي» عام 2012، تناولت فيه علاقة الصورة بالشعر الصيني.
بين آلاف الكتب، يضيع المتجول في سوق الشعر، حيث لا تأخذ دور النشر العريقة النصيب الأوفر من المتجولين، فلكل دار جمهورها الذي تستقطبه من خلال أهم العناوين المنصوبة بالخط العريض على خِيم العرض، في حين أن شراء الكتب ليس بأمر ذي أهمية في المهرجان، لأن الأولوية بالنسبة إلى الناشر تسويق اسم الدار، أما المتجول العربي، فقد يتبادر إلى ذهنه سوق «عكاظ» الذي كان يُقام في عصر ما قبل الإسلام، في شهر ذي القعدة/ تشرين الثاني «أكتوبر»، الذي كان مكاناً لإنشاد الشعر وإجازته من قبل نقاد ذلك العصر، لكن الاختلاف في أن سوق عكاظ لم يكن للأدب فحسب، بل للبضاعة المادية أيضاً، في حين أن «سوق الشعر» الباريسي يعرض البضاعة الأدبية ذاتها للبيع، على أنه يخلو من التكسب والمنافرة ومفاخرة الشعراء، التي كانت سائدة في ذلك الوقت في سوق «عكاظ».
يؤكد «سوق الشعر» لهذا العام، الذي اختتم في التاسع من حزيران، حضور الشعر وبقوة في الساحة الثقافية الفرنسية، في ظل التراجع العالمي عن الاهتمام بالشعر مقارنة بالفنون الأخرى، فباريس المتخمة ببيوت الثقافة والمسارح والحفلات الموسيقية ودور السينما لم تفتقد الفن الغائب: الشعر، كفن مستقل بنفسه، على الرغم من تشعبه وتداخله بشكل كبير في فرنسا خصوصاً وأوروبا عموماً مع باقي الفنون، لا سيما مع الفنون البصرية.

(باريس)
ــــــــــــــــــــــــ
 
السفير:
 

الموتُ بعيداًعن الموتْ

أتدري متى تصبح رائحة القهوةِ رحلةً إلى البحرِ؟
وأن ترى شالاً فوق حبلِ الغسيلِ بقيمةِ أن تطيرَ؟
أتدري متى تصبح وردةٌ مهملةٌ في الشرفةِ نهاراً من النزهاتِ؟
وصابونة البيتِ والعطرُ والنتُّ نهراً من الأغنياتِ
أتدري متى؟

بعد ليلةِ اشتباكٍ خيَّطَ فيها الرصاصُ شبابيكَ بيتكَ..
أنتَ تنتظرُ الموتَ
والموتُ في كل شيءٍ
لكنه لا يجيء!
/
في الثامن عشر من نيسان
في حمص
فتحتِ البنادق أفواهها والتهمت أفواه الورودِ التي تفتحت للتوِّ
خمسونَ ألفاً يحفرونَ على حجَرِ الليلِ أسماءهم
فيلتفُّ الموتُ على أصابعهم كمشنقة
يقذفونَ سقفَ التاريخِ بضوئهم
فيهوي على رؤوسهم
والموتُ في كلِّ شيءٍ
لكنهُ لا يجيء
/
قدميْ على حبلٍ يفضيْ إلى جهةٍ مجهولة
والقدمُ الأخرى في الهاوية
أخي الأصغرُ ينظرُ كالقمرِ المكسورِ
نصفُ قلبيْ بينَ عينيهِ
ونصفهُ في ساحة الحرية
حمصُ قطعةٌ من جهنم
يدي تغلقُ بابَ البيتِ الذي عدتُ إليهِ لتوِّيْ
ويدي الأخرى وسطَ المجزرة
رائحةُ البارودِ تقتربْ
والموتُ كالدمِ في كل شيءٍ
لكنهُ لا يجيء!
/
صباحاً..
تفاصيلُ الحياةِ أولُ أمطارِ أيلولَ
يلتقطُ الناسُ النهارَ كما تلتقطُ العصافيرُ الحَبَّ
لا يفتحونَ أفواههم إلا ليغنوا أغانيْ نسوها
فيغلقوا فمَ البندقية

/
صباحاً..
كتبَتِ الريحُ بالزجاجِ المحطَّمِ شيئاً لم أفهمهُ وقتها
والآن بعدَ عامينِ
في هذا المنفى الذي صارَ صوتيْ بهِ دونَ صوتْ
تحفرُ الريحُ في حُطَامِ فميْ:
الحياةُ حياةٌ معَ الموتِ
أما بعيداً عن الموتِ: موتْ
 
ـــــــــــــــــــــــ
القدس العربي: