الخميس، 31 أكتوبر 2013

شخص آخر

دائماً كانَ هناكَ شخصٌ آخرُ وأنا وحديْ
حينَ مشيتُ لأوَّلِ مرَّةٍ في شوارعِ
باريسَ
كانَ يمشي معيْ
فحاورتُهُ كشخصٍ سأكونهُ يوماً!
دائماً هناكَ شخصٌ آخرْ
في محطةِ القطارِ
يلوِّحُ ليْ مِن بينِ المروجِ
فتنبُعُ من كفِّهِ تفاصيلُ قريتيْ
البعيدة
يركضُ نحويْ مثلَ غريبٍ
فأشمُّ رائحةَ العصافيرِ والغروبِ
والوسائدِ البيضاءْ
أشمُّ رائحتيْ التيْ سَرَقتْهَا
المعادنُ والأوبئة
هو الآنَ بصحبتيْ بعدَ أعوامٍ طويلة!
يعلوْ صوتيْ عندما أتحدَّثُ الفرنسيةَ
صدفةً أمامهْ
أحكي له عن ماكينةٍ درزَتْ أوَّلَ
أعواميْ هنا
فخرجْتُ منها ثوباً بحبكةٍ جديدة!
أحكي عن باريسَ: دهشةِ الأطفالِ
وانتظارِ الانتظارِ
والطريقِ الذيْ لا يؤديْ إلا إليهْ
عن خارطةِ الصَّدَماتِ أحكيْ
وعن اصطيادِ الأوكسجينِ
والخياراتِ التي تتماثلْ!
أحكيْ عنْ تشرُّديْ -عندما كنتُ مثلَهُ-
كجناحِ طائرٍ منتوفْ
أحكيْ لهُ معانقاً انتباههُ
بينما أعُبُّ كلاميْ كمجنونٍ في صحراءَ
وأمنحُهُ كما لو كنتُ أمنحُنيْ ما ضاعَ
منيْ
أنا وطنٌ غريبٌ للغريبْ
وطنيْ الغريبُ: الغريبْ
لكنَّنا لا نكمِلُ الحوارَ
فصوتُ القطارِ القادمِ يصفعُنيْ..
ليذكِّرَنيْ بأنِّيْ لمْ أزلْ هوَ!
18/6/2013
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عمر يوسف سليمان
القدس العربي
http://www.alquds.co.uk/?p=98826

الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

المهرجان الدولي السابع للشعر في باريس قصائد عن الحرية والحرب والمنفى

لم يكن طقس باريس الشديد التقلب سبباً وحيداً لارتباك المشارك في المهرجان الدولي السابع للشعر في باريس لدى بحثه عن صالة عرض القراءات الأولى، بل ثمة سبب إضافي، وهو أن خمسين شاعراً من أوروبا والعالم العربي وأميركا اللاتينية سيقرأون نصوصهم بلغات عدة، وعلى المشارك أن يبذل قصارى جهده لكي لا يفوت عليه شيئاً من هذا الحدث الفريد. الارتباك كان مسيطراً على المشاركين، لكن جمال المكان (محافظة باريس 14) والاستماع إلى الشعر الجميل خفف من حدته.
إضافة إلى القراءة الدولية، التي قرأ فيها الشعراء مجتمعين خمسين قصيدة في شكل يومي، أقيمت نشاطات المهرجان الخاصة: أمسيات للشعر الإسباني، وشعراء فلسطين، وللشعراء المنفيين، ومحاضرة عن الشاعر الفرنسي ماكس جوب، مع عرض مسرحي اختتمت به نشاطات المهرجان، وقد مثِّلت فيه نصوص لشعراء ظهروا خلال الحربين العالميتين، منهم روبرت ديسنوس (1900-1945)، بول إيلوار (1895-1952)، ولانغستون هيوز (1902-1967).
كلمات الحرية والحرب والموت والمنفى كانت حاضرة بقوة في معظم نصوص الشعراء المشاركين. لم يكن ثمة اتفاق مسبق على ذلك، لكن الأزمة العالمية والخوف وانعدام الثقة بالمستقبل وتناول الهم الإنساني من خلال البحث عن حل لإنسان العالم بدلاً من عالم الإنسان كان مسيطراً على اللغة الشعرية. ففي اليوم الأول قرأ الشاعر الفرنسي أكسيوم غيليرم قصيدة عن الحرب في سوريا، ومع أنه لم يزر الشرق الأوسط من قبل، إلا أنه صرح بأن الحرب هناك تعنيه شخصياً، كما كان لافتاً أن كثيراً من الشعراء قرأوا بأكثر من لغة، في محاولة للتواصل والخروج من حواجز اللغات والاستغناء عن شخص آخر للإلقاء، وبعضهم ترجم نصوصه التي ليست لها خصوصية لغتها الأم بنفسه. أما صالات القراءات التي كانت موزعة على محافظات باريس فقد تميز من بينها معهد العالم العربي، و"بيت أميركا اللاتينية".
في معهد العالم العربي، كانت أمسية الشعراء الفلسطينيين أكثر النشاطات تنظيماً وحضوراً. مساء اليوم الثالث من المهرجان، قرأ الشاعر إبرهيم نصر الله الذي ينتمي شعرياً إلى جيل الثمانينات، قصائد احتفت بالوطن والأرض والحرية، كما قرأ كل من الشعراء مايا أبو الحيات وأنس عيلالي وأسماء عزايزة الذين ينتمون إلى الجيل الجديد قصائد انعكست فيها التفاصيل اليومية. ولم يكن عزف البيانو الحِرفيّ وحده ما أضفى أجواء ساحرة على المكان، فقد اتحد مع موسيقى اللغتين العربية والفرنسية واللوحات التشكيلية التي استخدمت كخلفية للمسرح.
شكَّل الشعر الإسباني الركيزة الأكثر فاعلية في المهرجان، ليس فقط بعدد شعرائه وخصوصيتهم، بل من خلال أمسية استمرت ثلاث ساعات في "بيت أميركا اللاتينية"، أحياها شعراء ينتمون إلى أجيال عدة من كولومبيا والأرجنتين مع عزف على القيثارة، وقد احتلت الرقة والغنائية والتنوع والعفوية أغلب نصوصهم، وهي الصفات التي يتميز بها الشعر الإسباني الذي مر نتيجة ظروف كثيرة بتجربة فريدة من التمازج مع الشعر الأميركي والأوروبي خلال القرن الماضي. كما غنّت الإسبانية كريستيان كورفوازييه قصائد لشعراء إسبان عاشوا الحرب الأهلية، أبرزهم بابلو نيرودا ولوركا ورافاييل ألبرتي (1902 - 1999).
افتقر المهرجان إلى ورشات العمل والكتيبات، على خلاف المهرجانات الشعرية الفرنسية التي تهدف في الدرجة الأولى إلى الخروج بكتاب أو عمل فني يحوي نصوص الشعراء مع دراسة عنها، ولا نستغرب الأمر إذا علمنا أن شخصاً واحداً يدير النشاطات كلها، هو الشاعر الفرنسي إيفان تيتيلبوم، الذي صرح بأن المؤسسات الثقافية الفرنسية الرسمية لم تتبنَّ المهرجان، فبقي جهداً فردياً.
كثير من الانفعال وتلاقي الثقافات جرى بين شعراء العالم في باريس خلال الأيام الماضية، الكل يقرأ، والكل يحاور، والكل يستكشف صدى قصيدته بين أناس من مختلف الجنسيات، غير أن ثمة غربة تنتاب الشاعر عند قراءة قصيدته بلغة لا يتقنها أغلب الحضور. هذا ما شعرته في أمسية "كلمات المنفيين"، رابع أيام المهرجان، التي قرأتُ فيها قصائدي بالعربية، وعلى الرغم من الغربة، فإن للمنفى اللغوي وجوهاً عدة تمحو المنفى الواقعي، وخصوصاً أن الحاضرين الذين لم يفهموا القصائد تفاعلوا بشكل لافت مع موسيقى اللغة العربية وانجذبوا إليها، ولعل في هذا ما يمنح الشاعر المنفي بعضاً من وطن.

ــــــــــــــــــــ
عمر يوسف سليمان
النهار:

http://newspaper.annahar.com/article/77580-المهرجان-الدولي-السابع-للشعر-في-باريس-قصائد-عن-الحرية-والحرب-والمنفى


السبت، 5 أكتوبر 2013

الشعر السوري في جحيم الثورة والحرب

يقترب الخصام حول الشعر السوري والثورة اليوم من خصام القدماء حول اللفظ والمعنى. فالثورة المعنى واللفظ الشعر، أو العكس. في خضم الأجوبة عن التساؤل الأهم: الشعر في الثورة أم الثورة في الشعر؟

إذا تجاوزنا هذه المعالجة البدائية التي تجعل أحدهما لباساً للآخر، وجدنا أن الفكرة الجديدة - بمعناها الأعمق كتفاعل أولي يقدح في المخيلة جنباً إلى جنب مع اللغة- تعني أن نصاً جديداً في طريقه إلى النور. الفكرة الجديدة نقطة خصبة تنبثق منها الدلالات الشعرية المختلفة. من هنا تساهم الثورة، كواقع، بتفاصيلها كافة، في أن تُحدِث ثورة داخل اللغة، شريطة أن تكون الثورة- الفكرة في داخل الشاعر. هكذا تلتقي الثورة بالشعر ليصبّا في نسيج واحد، ويصلا إلى نتيجة واحدة، تشبه تلك التي وصل إليها عبد القاهر الجرجاني حول اللفظ والمعنى، وتتلخص في أن الفصاحة ليست في كليهما، بل في السياق اللغوي للنص.
خاض السوريون كل ما يرافق التغيير من أقصى مشاعر القهر والاضطراب والخوف والقلق والتشرد والحماسة والتفاؤل والوحشة والغضب. هذا الخوض يعني أن تجربة خاصة وفريدة تتشكل في الحياة، تالياً في الشعر. أما أن يصنع الشعرُ ثورةً، فهذا ما لا يُنتظَر منه، لأن مهمة الشعر كمهمة باقي الفنون: أن تنحو بطريقة تعامل الإنسان مع الواقع إلى الأفضل عبر التأثير في الذائقة والمخيلة لإعادة تشكيل السلوك اليومي بطريقة غير مباشرة؛ بغض النظر عن موضوع النص الشعري، تلك المهمة المعقدة التي تناولها محمد النويهي في كتابه "الفن ومسؤولية الفنان"، بعيداً عن "المدرسة الواقعية" و"الفن للفن". يبقى تراكم الفنون، ومنها الشعر، عاملاً من عوامل اشتعال الثورة على الديكتاتور، من دون أن نحمِّل هذا العامل أكثر من طاقته.
فتحت وسائل الاتصال الحديث أمام السوريين أفقاً لتغيير اللغة الشعرية. هم، علاوةً على تواصلهم الذي تفجّر في الثورة بعد عقود من التفرقة والقمع، انتشر بينهم الـ"فايسبوك" كوسيلة للتعبير عن شجونهم بلغة مختصرة وعفوية. من هذه الممارسة اليومية للكتابة، صرنا نقرأ قصائد جميلة لأناس لم يكتبوا الشعر من قبل. فالنشر والتجريب أصبحا متاحين لكل الناس، ومنهما ينضج أصحاب المواهب ويختفي من لا موهبة له. لم يكن هذا التواصل حكراً على السوريين بالطبع، لكن خصوصية الشعر السوري تأتي من خلال الربط بين التواصل على الأرض والتواصل الافتراضي الذي تفجّر مع بدايات الثورة، ذلك أن ثورة الاتصالات جزء أساسي من الثورات العربية على الاستبداد.
ثورة الاتصالات، أو الثورة المعرفية، أتاحت لكلّ كائن أينما كان، أن يكون شريكاً في الثورة، ودفعته إلى الانفتاح على العالم والتماهي به. من جهة أخرى، زادت من عزلة الإنسان وانكماشه وبعده عن حياته الطبيعية ملتجئاً إلى عالم افتراضي مليء بالعشوائية والوهم. نحن إذاً أمام وجهين متناقضين من التغيير: الانفتاح العالمي والعزلة الفردية. هذا التناقض حدث مع السوريين في العالمين الافتراضي والواقعي. فعلى الرغم من أن الثورة أتاحت لهم التواصل والكشف بشكل لم يسبق له مثيل ربما، إلا أنها تحولت بعد سلسلة من العنف الدموي مصدراً للتشويش والعزلة والهرب من الواقع نتيجة اليأس.
إذا كان التناقض (أو التضاد) في الأشياء والكائنات منذ الأزل منبعاً دافئاً للشعر، ووسيلة الشاعر المثلى لإظهار الجانب الجمالي واللامرئي من العالم، فإن هذا التضاد الرهيب الذي نشهده اليوم هو الأبرز في تاريخ البشرية، فالبشر اليوم متقاربون افتراضياً إلى درجة أنهم في أقصى التباعد واقعياً. من هنا، من هذا التضاد الذي ينتاب كل فرد في كل بقعة على الأرض مئات المرات يومياً، يولد الشعر بأشكال جديدة تصنعها الحاجة إلى ترميم الشرخ الإنساني.
مفارقات وثنائيات
شيئاً فشيئاً سادت الحرب سوريا، فاحتلت المفارقات مشاهد الحياة اليومية للسوريين: إذ أيّ مفارقة أكبر من تعذيب طفل حتى الموت؟ أو من مشهد يحوي مئات الأطفال وهم مقتولون بالغازات السامة؟
ثنائيات متصادمة من الحياة والموت، الطفولة والاستبداد، الحلم والظلام، الحرية والطائفية، البراءة بأقصى حالاتها والوحشية التي بلغت درجة لا يحتملها العقل البشري. وإذا كانت الطفولة كنز الشاعر، فإنها في سوريا أصبحت بركاناً من الفجائع والمفارقات والتناقضات التي انعكست وستنعكس على الشعر.
كثيراً ما فجرت الحرب في الشعر، اتجاهاته وأساليبه ولغته المختلفة. نذكر هنا ما أفرزته الحربان العالميتان من أدباء ومدارس أدبية، من أبرزهم الشاعر الألماني غوتفريد بن 1886-1956 الذي أنشأ المذهب العدمي والقول بانعدام قيمة الإنسان والأشياء، والروائي والشاعر الألماني هيرمان هسه 1877-1962، رائد الرومنطيقية الالمانية وأنسنة الأشياء. أما الشاعر البريطاني جون ستولورذي فقد أرجع سبب غزارة الشعر البريطاني بين 1914 و1918 إلى الحرب العالمية الأولى، حيث يربو عدد الشعراء البريطانيين الذين كتبوا عنها إلى أكثر من ألفي شاعر (بي بي سي العربية، الموقع الإلكتروني، كيف تلهم الحرب الشعراء؟). في فيتنام صنعت الحرب الشاعر باو شان غوين الذي عاشها في طفولته فالتصقت يومياتها بقصائده حتى اليوم.
وكما أن التضاد كان من أهم عناصر الشعر العربي، فإن الحرب كانت منذ عصر ما قبل الإسلام رفيقة هذا الشعر، فقد كانت مهمة الشاعر تحميس الجنود ودفعهم إلى الكرِّ والإقدام، واستمرت هذه المهمة في عصور الإسلام مع فارق الطابع الديني الذي اصطبغ به الشعر. نجد هذا الطابع نفسه في ما أفرزته الحرب الإيرانية - العراقية من الشعر الفارسي، وغني عن الذكر ما أحدثته نكبة فلسطين في الشعر العربي حتى اليوم.
لا نستطيع أن نتنبأ بملامح الشعر السوري في المستقبل، لكن لا بد أن ثمة شعراً مختلفاً يتشكل اليوم في رحم الثورة والحرب. يكفي أن تنشأ تجارب شعرية جديدة وغير متوقعة، وأن تندثر تجارب أخرى وتنهار قامات شعرية، لنوقن أن شعراً جديداً يتشكل. أما الشعراء المكرسون فقد أصبحت قصائدهم أكثر تماهياً مع الحدث اليومي، بعضهم هاجر شعر التفعيلة إلى غير رجعة، وآخرون تخلّوا عن النصوص الطويلة والبلاغة لصالح العبارة التي تكتسب شعريَّتها - بعيداً من الصورة والمجاز- من الواقع الأقرب إلى الخيال، إضافة إلى مفردات الحرب والثورة التي اجتاحت معجمهم اللغوي.
يقول البعض إن كل ما حدث وما سيحدث ليس إلا حلقة مفرغة جديدة، ليس إلا وهماً، تماماً كـالـ"فايسبوك". لكن ما لا يستطيعون نكرانه، هو المختبر الشعري الجديد الذي بدأ يظهر، وإن كان كل ما حدث ويحدث وهماً، فإن الوهم العظيم يأخذ حيزه المهم من التأثير وتغيير الواقع أحياناً.

نماذج لشعراء نجوا من المباشرة والإيديولوجيا
في ما يأتي نماذج من نصوص شعراء سوريين نجوا من فخِّ المباشرة والإيديولوجيا حين كتبوا عن الظرف السوري في ازدحام الأخبار العاجلة، فاقتربوا من الحدث العابر، ولكن من دون أن يلغوا مسافة الرؤيا التي تتيح لهم التقاط الحدث وتحويله إلى كائن ثابت في اللغة الشعرية. علماً أن هذه النماذج مجرد قرائن تطبيقية للأفكار الواردة في البحث، ولا تمثّل جميع ما كُتب من الشعر في الثورة. فالنصوص المكتوبة خلال العامين الماضيين تضاهي من حيث الكمّ ما كتبه السوريون خلال العقد الأول من الألفية الثالثة.

عماد الدين موسى
"الزهرةُ التي منذ عامين/ الزهرةُ التي أينعتْ كشمسِ الظهيرة منذ عامين/ الزهرةُ التي فقدتْ لا بتلاتها فحسب/ بل غصنها أيضاً/ الزهرةُ التي ما من نبعٍ يسقي ترابها/ لذا اكتفتْ بالهواء الملوّث بالبارود/.../ الزهرةُ التي دهست عظامها دبّابة في رسمٍ لعلي فرزات/ الزهرةُ التي تغنّي كطائرٍ في قفص وترقص مذبوحةً/.../ الزهرةُ التي تركت الأبوابَ مفتوحةً أمام جميع الاحتمالات البشعة/ الزهرةُ التي لا حول ولا قوّة/ الزهرةُ التي خرجتْ إلى الشارع/ ما من أحد يقدر أن يعيدها إلى حضن أمها/ الغابة" ("الزهرة منذ عامين"، عماد الدين موسى، جريدة "المستقبل"، الأحد 17 آذار، 2013).
تسود النصَّ لغة متوترة مبنية على تتالي المبتدأ مع كل تركيب من دون أن نصل إلى الخبر حتى النهاية، وتأخذ مفردة "الزهرة" انحيازاً دلالياً يعاكس دلالتها المعتادة. الزهرة: الرقة والعذوبة ليست سوى "الثورة": الغضب. فالثورة اليتيمة التي وصلت إلى المجهول واستحالة الرجوع تنفتح أمامها كل احتمالات البشاعة، مثل الزهرة المقطوفة "التي خرجت إلى الشارع".

مها بكر
"فصيحٌ مرئيٌ شاهقٌ مظلمٌ حزينٌ سعيدٌ عذبٌ، أجاجٌ هو دمكِ/ وشهدكِ باهظٌ/ من زهر العذاب/ من نقيِّ عظامنا/ كم مرّةً عليَّ أن أموت لأقتحم خوفي وأبلغ بياضكِ/ كم مرّةً عليَّ أن أبذل أصابعي كي تكون يداكِ لي/ وكم مرّةً عليها دير بعلبة أن تنطفئ/ كي تبقى زهوركِ متوهجة أيتها الحرية؟" ("اسكبْ بعضاً من حبركَ على قبري إن مرَّ خيالك به"، مها بكر، مجلة "أبابيل" الشعرية، العدد التاسع والأربعون، كانون الثاني، 2012).
يبلغ الصراع حداً لا تجد الشاعرة طريقة للتعبير عنه إلا بما يمكن أن نسمِّيه: تجميل الفجيعة، وذلك بسحب صفاتها على نقيضها: الخلاص. فــ"البياض" الذي كثيراً ما يرمز إلى الموت/ الفجيعة صار رمزاً للحرية/ الخلاص، و"زهور الحرية" المتوهجة مستمدة من "زهر عذاب" في دمها العذب الأجاج.

محمد علاء الدين عبد المولى
"مغلَّفٌ جسدي بتابوتٍ غير مرئيّ/ هاتفي تئنّ فيه صرخاتُ القتلى/ تنحني في رسائله كلمات المغتَصبات/ وعلى ظَهري حقيبةٌ كلّما مشيتُ خطوةً يقع منها منزلٌ مدمّر/ أو وطنٌ مقطوعٌ من جغرافيا" ("قصائد 5 آذار 2012"، محمد علاء الدين عبد المولى، من ديوان "مجازات مكسيكية" صدر عن مؤسسة "sederec" المكسيكية، 2013).
الجسد، الهاتف، الحقيبة، هذا ما تبقّى للسوري المغترب. أشياء تجتاحها الحرب، فالسوري خارجها، لكنها داخله، تابوته "غير مرئي"، إذ لا يرى معاناته أحد، وثمة منزل دُمِّر لكنه يحمله أينما ذهب، هي دلالات الموت البطيء أو الموت اغتراباً حتى عن حالة الموت نفسها.

تمام التلاوي
"تعال لنشكرَ قاتلنا يا صديقي/ لأنه أخطأنا وأصاب الصبيّ الشقي الذي طالما كان في الحيّ يقلق نومكَ بعد الظهيرة/ ظنّ قذيفتَهم كرةً/ فتصدّى لها بجسارته/ مثلما كان دوماً يصدّ الكرات/ ويصرخ في اللاعبين/ ولكنه الآن فاز بلعبته/ دون أي صراخ على القاتلين/ هو الآن فاز عليكَ وفاز عليَّ ونام إلى أبد الآبدين) ("الصورة سيريا"، تمام التلاوي، من صفحة الشاعر على الـ"فايسبوك").
تكاد السخرية تكون طابعاً عاماً للشعر في الثورة السورية، إذ قلما يخلو نص من كوميديا سوداء ضمنية أو واضحة: يتكرر تجميل الفجيعة هنا كردّ فعل على حالة الإحباط الهائل، وذلك من خلال البحث عن وجه إيجابي للموت- ولو كان عبثياً- بلغة سردية هادئة تبطن كماً كبيراً من الألم والسخرية.

صلاح ابرهيم الحسن
"قال لي الموت وهو يمرّ من تحت الشرفة: أصعد أم تنزل/ فأجبت: بل تصعد وأصعد/.../ الموت ليس صديقي/ لكنني اعتدت عليه/ كما اعتدت في السابق/ على جابي الماء والكهرباء ومحصّل الضرائب وصاحب البيت/ اختفوا جميعهم الآن/ وبقي الموت الذي يزورنا يومياً/ يعمل بجدٍّ/ ولا يكترث لتضرعاتنا/ بالأمس قال لجارنا: أرواحكم مسبقة الدفع/ مثل فاتورة الهاتف المحمول/ ومثل صفقة الصواريخ الأخيرة/ وجبى روحه" ("مقاطع من أطوار الموت الغريبة"، صلاح ابرهيم الحسن، مجلة "فضاءات أدبية"، العدد الأول، تموز، 2013).
يقترب الشاعر من اللغة اليومية من دون أن ينتمي إلى شعراء اليوميات، والمجاز "جبى روحه" موظف لصالح السخرية الحادة، إلى درجة أن الشاعر يؤنسن الموت ويمنحه وظيفة اجتماعية أيضاً.

أحمد م. أحمد
"أراكَ خارجاً من دار المجزرة/ دون أن تستطيع حنجرتكَ نطق التعازي/ وكنتَ تنفخ زفيركَ متهدِّجاً عالياً/ لكي تتفادى أذناكَ وهن الأذان/ فتغالب فكرةَ وجودكَ المهتوك، وغيابَهم/.../ إن يكنْ في قلبكَ ألفُ قصيدة حبّ/ وفي رأسك ألفُ رواية/ إن تكن الحضارةَ/..../ إنْ وإن.../ فلن تزيد عن مساحةِ منظارِ ذلك القنّاص/ ذلك القنّاص الذي لو يدري أنّ وسعكَ السموات/ لسدّد الفوّهة إلى قلبه الفاغر/ ليقنص قلبه السوريَّ الثاني" ("قناص القلب"، أحمد م أحمد، من صفحة الشاعر على الـ"فايسبوك").
يتوالد التضاد بكثرة في تراكيب النص: دار المجزرة، الحضارة- مساحة منظار، السموات- فوهة، يقنص قلبه، وجودك- غيابهم، لكنه ينتهي إلى اتحاد قلب الضحية بالقلب الغائب للقاتل، الذي لا يستطيع أن يراه إلا برؤية قلب الضحية والتحرر من "قلبه الفاغر" المتوحش الخالي من القلب، والذي يبتلع فيه "قلبه السوري الثاني".

يزن عبيد
"يعشق الغرباء ويمنحهم قلبه/ هو يعلم أنهم راحلون/ يتقن الهروب من أول الحكاية إلى آخرها/ متفائل بالفراغ/ لا وقت لديه إلا ليمدح فنجان قهوته الصغير ويستكثر "صباح الخير" على فرشاة أسنانه/ يشتم قلبه وقدمه/ قلبه وقدمه بلا تاريخ وكذلك جيوبه المنتفخة بالمستحيل/ متعب مثل أي مدخنة/ وشاعر تراوده فكرة الانشقاق لصالح الينابيع/ في الليل يفتح خزانته ليشاهد هداياه/ هداياه التي اشتراها لنفسه/ لا أحد يعرفه/ لا أحد يذكره/ لا أحد يقتله/ بيد أن الصباح ينقش على أرصفة المدينة ظلَّ دمه لو مات" ("كتاب الغريب"، يزن عبيد، من صفحة الشاعر على الـ"فايسبوك").
يحتفي النص بالتفاصيل اليومية لشاعر منسي لجأ إلى نقيض الثورة: الاكتئاب والعزلة بسبب واقع باهظ المرارة، أما مفردة "دم"، التي كثيراً ما تدل على الموت، فإنها تأخذ دلالة مغايرة: ما تبقى من المكنون الحقيقي للشاعر المغلف بالدمار النفسي والخوف والخطر. لكن استمرارية هذا المكنون السري/ الحياة؛ رهينة بالموت، فالموت هنا حلّ لموت آخر أكثر عدَماً.

على سبيل الخلاصة
تتنوع الضمائر الثلاثة، المخاطب والغائب والمتكلم بشكل كبير داخل النص الواحد أحياناً في شعر الثورة السورية، كمرآة لحالة الاضطراب الذاتي. وفي النصوص السابقة يتكرر ضميرا المخاطب والغائب اللذان يزيدان من سرعة إيقاع النص على حساب ضمير المتكلم الذي يمنح النص بنية إيقاعية بطيئة، بعيداً من النبرة الخطابية. فالنصوص مشغولة بلغة وجدانية تعالج الحدث من بعيد، وتنفذ إلى النكبة العامة من خلال التفاصيل الصغيرة أو الحزن الشخصي والعالم الداخلي.
إضافة إلى الانحيازات الدلالية التي أشرنا إليها، والتي تعكس صدمة التحولات الكبيرة والمفاجئة، فإن المفردات التي تصبّ في الحقل الدلالي للثورة السورية والحرب تحتل النصوص السابقة: مجزرة، دبابة، دهست، قناص، قذيفة، قاتل، صواريخ، فوهة، سدَّد، مذبوحة، انشقاق، تابوت، صرخات، مغتصبات، مدمَّر، أقتحم، خوف، تضرُّع إلخ. هذه المفردات وما يشبهها، أصبحت تغطي جزءاً كبيراً من المعجم اللغوي للشعراء السوريين، تماشياً مع ما حلّ في حياتهم اليومية من مآسٍ وخراب.

ــــــــــــــــــــ
عمر يوسف سليمان
النهار- الملحق
5 تشرين الأول 2013
http://newspaper.annahar.com/article/72827-الشعر-السوري-في-جحيم-الثورة-والحرب